الأربعاء، 13 مايو 2009

ياعزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي

ياعزيز عيني
وانا بدي أروح بلدي
ليلة نمت فيها
وصحيت مالقتش بلدي
بلدي يا بلدي
وياعيني على بلدي
بين أهلي وناسي
وبقيت غريب يا بلدي
عم يا اللي ماشي
ظلم ماترضاهشي
سافر قلبي وماجاشي
يدور على بلدي

تلك الكلمات بكل ما فيها من اغتراب كانت آخر ما صاحب عرض فيلم "عين شمس" لمخرجه الشاب ابراهيم البطوط...

في وسط القاهرة الغجرية قضيت أمسيتي, الشطرالأكبر منها منحته للفيلم الذي ظننته في البداية فيلما آخر يضاف إلى "فورة" أفلام السينما الواقعية التي أصبحت التيمة المفضلة في قاعات العرض السينمائي مؤخرا, ربما لأنها الأكثر إدرارا للربح أو لأنها قد تضع صانعيها في مصاف النشطاء ذوي المواقف الكبيرة, أو لأنه بالفعل الكيل طفح ولم يعد للصمت مكان بيننا...ما علينا...النتيجة في كل مرة أني كنت أخرج من قاعة عرض الفيلم من دول لا تحضرني إلا فكرة الهجرة!...حلم عبور المتوسط ولو تحت جنح الظلام في قارب من القوارب ال"غير شرعية" إياها ! المهم الواحد ينفد بجلده !

لكن فيلم "عين شمس" كان على جانب من الاختلاف في أثره بحق...

صحيح أن في الفيلم أشياء وافدة من عالم المبيدات المسرطنة والفقر واللهاث وراء لقمة العيش ووصلات الديش غير القانونية والأفراح التي تحييها راقصة ذات شعر ذهبيته مصطنعة و في الغالب حبلى(!) وأوراق البفرة الملغومة والبيرة...و صحيح أن الكاميرا أخذت عيني رغما عني إلى داخل مستشفيات التأمين الصحي وما أدراك ما التأمين الصحي.. وصحيح أن مشاهد تظاهرات وسط البلد الحية موجعة ومخيفة.. وصحيح أن "شمس" الطفلة التي تنسج خيوط الفيلم حولها والتي- دون أن أدري- توحدت مع أحلامها وشقاوتها وضفيرتيها المجعدتين الحلوتين طوال الفيلم ماتت بمرض السرطان..صحيح أن في الفيلم كل هذه التراجيديا وأكثر...لكن صحيح كذلك أن المخرج أبى إلا أن يترك لنا بعض ومضات النور في أركان هذا العالم الرمادي...

فمثلا شباب "المنطشقة" الذين -بالمناسبة يعني- يثبتون شعورهم بكميات هائلة من مثبتات الشعر الرخيصة ويترزقون من عمل وصلات الديش غير القانونية ومن فك شفرات القنوات المشفرة لأهل "عين شمس", آلمهم أن يتسرطن جسد الفتاة الصغير بلا ذنب جنته حتى يهمد إلى الأبد, فقرروا أن يستغلوا سيطرتهم على كابلات ووصلات الديش في المنطقة فإذا بهم يبثون -قسرا - فيلما وثائقيا توعويا موضوعه مرض السرطان والقدرة على مقاومته وقد اختاروا لذلك وقت إذاعة "الماتش" حيث الكل يجلس أمام الديش كالوتر المشدود! ومن بعد وثائقي السرطان تتوالى الأفلام الوثائقية التي يعرضونها (بلطجة) على أهالي المنطقة وكأنما يصنعون بذلك ثورتهم الصغيرة وتمردهم الوحيد!

حتى محتوى الوثائقي ذاته كان متمردا على المرض ومتمردا على رفض الناس أن يسموه باسمه مفضلين أن يشيروا إليه بـ"المرض البطال" وكأنما يخشون ذكره لئلا تتلوث ألسنتهم به...

ومضة أخرى تراها خاطفة في نظرة خجل في عيني الرجل -ابن المنطشقة كذلك- الذي اعتاد أن يطعم الدجاج في مزرعته حبوب منع الحمل "عشان تسمن"...نظرة خجل تملأ الكادر بينما يتساءل أبو الطفلة "شمس" أمامه وأمام أهل "عين شمس"عن جدوى العلاج من السرطانات في بلادنا بينما كل ما حولنا لا يجلب إلا المرض فالطيور عندها انفلوانزا واللي سليم منها واخد حبوب منع الحمل والفاكهة محقونة والخضار متسرطن؟!! في كل اليأس الذي نقلته لي نبرة صوت الأب وهو يتساءل تظل نظرة الخجل في عيني صاحب المزرعة ومضة نور لأنها على الأقل ذكرتني بأن هذا الذي يهد في بدني هو في النهاية إنسان, يمكن أن يخجل!
ومضة أخرى عابرة سريعة تجلت في لحظة تقع فيها عينا الأب على أحد المدرسين في مدرسة ابنته, فيتذكر أن هذا المدرس بالذات كان قد استقل يوما معه"التاكسي" وقد خرج لتوه من إحدى مظاهرات تكسير العظام في وسط البلد...فهل كان يعدنا المخرج في هذه اللقطة ببكرة أفضل؟ بجيل جديد يتم إعداده ليقلب الموازين ويتمرد على كل ما هو جدير بالتمرد؟
الومضة الأخرى التي وفدت من عالم ما وراء العالم, هي تلك التي تمثلت في أنه منذ وفاة طفلته و في موعد لا يُخلف من كل عام يجد السائق البسيط "رمضان" -أبو الطفلة الفقيدة - "فردة الكاوتش" للتاكسي الذي يملكه "مهوية حبتين" وهي "الفردة" التي كانت طفلته "تهويها" نكاية فيه لأنه لم يكن يستجيب لإلحاحها عليه أن يصحبها إلى وسط البلد... إلحاحها الذي كان مشفوعا بوعيد: "والله لو ماودتني وسط البلد لافرقع فيك كل يوم صاروخ!" ..لقطة ذكرتني بأن الموت لا يعدو أن يكون انتقالا بين عالمين يظلان -وإن لم ندرك- على اتصال...
وأخيرا الومضة الأبهى كانت الأم التي لعبت دورها حنان يوسف (والتي نفهم من اسم زوجها "رمضان" أنها مسلمة) حين علمت بقرب لحظة فراق الابنة الوحيدة فإذا بها تستعد للحظة كأجمل ما يكون...فتحكي لابنتها حكاية السيدة العذراء...حكاية العذراء الأم...تحكي لها عن فقد الأم الذي عاشته السيدة العذراء بهدوء وتؤدة ومن دون دموع وكأنما تؤهل روحها وتتوحد برضا مع ألم السيدة مريم وعذابها, ثم تصحب الفتاة في رحلة إلى إحدى البقاع التي يعتقد أن السيدة العذراء استظلت بشجرة عليها في منطقة "عين شمس" وتوقد شمعة أمام أيقونة العذراء وفي حضنها السيد المسيح طفلا...الأم التي تتأهب للفقد الكبير توقد شمعة للسيدة العذراء والطفلة التي لا تدرك ما حقيقة الأمر تقلد أمها فتوقد بدورها-مبتسمة- شمعة بأصابعها الصغيرة...
هذه الرحلة الروحية التي لعبت على وتر المحبة ونبذ التعصب أهبتني أنا نفسي كمشاهدة لفقد الفتاة الصغيرة التي قتلت مغدورة بالمبيدات المسرطنة...

كلما رأيت وجه حنان يوسف الحزين يملأ الشاشة تجمعت الدموع في عيني رغما عني...وجه مصري محفور وأداء أكثر من عبقري في تلقائيته...وجه امرأة متعبة لكن التعب لا يهدها..امرأة لم يهدأ خاطرها إلا بعد أن أنجبت طفلا عقب رحيل ابنتها ومنحته اسم"عين شمس" ضاربة عرض الحائط بتعليقات وتحفظات الجميع!


المفارقة التي لم يفت المخرج أن يلفتني إليها والتي كادت أن تضيع مني وسط كل الوجع في الفيلم, هي أن منطقة"عين شمس" التي تدور فيها أحداث الفيلم والتي تظهر أحوالها مزرية لدرجة تجعلك تفكر في أنها جديرة بمرثية من ألف بيت, كانت إحدى عواصم قدماء المصريين في أيام العز!

هناك تعليقان (2):

Israa El-sakka يقول...

بجد أنا نفسي أشوف الفيلم ده أوي ..أصل طالما إخوتنا البعده وقفوا في وشه بالغباء ده يبقى فيه حاجة ( معلش بفترض دايمن سوء النية ) أنا حاولت أشوفوا على النت لكن للأسف ملقتوش خالص
تحياتي و أتمنى دوام التواصل

Geddo Iskandar يقول...

واضح إن الفيلم رائع لكن أنا مش لاقي على الإنترنت غير الإعلان والتتر !

ومش عارف الCD بيتباع فين عشان أجيبه !!

ياريت لو فيه طريقة أشوف بيها الفيلم تدلينا وتكسبي فينا ثواب :))