الثلاثاء، 23 ديسمبر 2008

كفاحي...أيوالله كفاحي!

كما كان لهتلر كتاب أسماه "كفاحي" بث صفحاته أفكاره النازية و رؤاه الهتلرية الجامحة التي يتضافر فيها السياسي والاجتماعي والتاريخي و الأنثربولوجي والشخصي, من حقي أكتب أنا كمان كتاب وبرضه أسميه "كفاحي" أبثه شيئا من صراعاتي و مواجهاتي و تساؤلاتي ولعناتي ودموعي وآهاتي وأناتي التي تتردد أصداؤها في عالم الميكروباصات وسواقين الميكروباصات!! ولا يظنن أحدكم أن كفاح هتلر يزيد ويفيض في حجمه بحال على كفاح مواطن مصري ربنا كتب عليه الشعبطة في الميكروباصات... ولست أرى في المقاربة والموازنة بين كفاح هتلر السياسي في ألمانيا ما قبل النازية ولا بعدها وبين كفاحي مع المواصلات في القاهرة مبالغة ممجوجة ولا مستنكرة!بعد دراسة ميدانية متأنية (كل يوم شعبطة رايح وشعبطة جاي في الميكروباصات حتى غدوت وجها مألوفا في عالم الميكروباص, بل إن أحد سائقي الموقف الذي أتألق ببهاء في سمائه بقى معتبرني "من حريمه" فلا يسمح لراكب متنطع- وما أكثرهم- بالتنطع علي والتلزق في ولا يسمح لأحد من الجنس الخشن بالجلوس إلى جواري من أصله...ودي طبعا -ولا فخر- مكانة لا تصل إليها أية راكبة ولا حتى بشق الأنفس! قد يسألني سائل: ومن أين لك المكانة الخاصة يا سيدتي؟أقوم أرد على هذا السائل أعزه الله وأقول إن محسوبتكم بقى الموقف دة أخد منها راقات على مدار سنين...والأقدمية تخلق نوعا من الألفة كما تراكِم شيئا من الخبرة المشتركة, والألفة والخبرة المشتركة عاملان لا يستهان بهما في أي حقلٍ كان) المهم بعد دراسة ميدانية لم أختر أن أجريها بل إنها فرضت نفسها علي فرضا لكثرة ما تشعبطت في ميكروباصات واتخانقت وفضيت خناقات ولميت أجرة ولخبطت الحسابات وتعاطفت مع سواقين مزوغين من الباشوات الظباط لأن معاهمش رخص ولا عندهم واسطات كبيرات تحميهم من اللزق على القفاوات, لقيت دماغي من تلقاء ذاتها بتعمل stratification للعناصر المكونة لعالم سواقين الميكروباص, يعني إيه الكلمة الأجنبية دي؟ يعني تصنيف طبقي كدة... خلصت من هذه الدراسة إلى تصنيف أولي عله بعد التطوير والتنقيح يصلح للتسجيل باسمي زي هرم "ماسلو" بتاع الحاجات النفسية الأساسية كدة وزي هرم أفلاطون الطبقي الذي وضعه لـ "جمهوريته"...نعود للدراسة التي استخدمت فيها المقاربة المعروفة بـ Participatory Observation أي الملاحظة بالمشاركة فوجدت أن لدينا ست فئات أساسية يتكون منها عالم العربيات اللي بالنفر: الفئة الأدنى هي فئة "التباعين" ودة بقى تلاقي عيل اسم الله حلو 12 ولا 13 سنة كدة, في الغالب لم يتلق أي نوع من أنواع التعليم...تجد في عينيه نظرة رجل ثلاثيني -على الأقل- لكثرة ما رأتا واشتهتا وانكسرتا... والواد دة مدهش غالبا في ذكائه وسرعة بديهته...وفي الخناقات تجده يردد كلام الأسطى اللي علمه ورباه حتى وإن كان لا يدرك تماما معناه, وهذا الكلام يكون من نوع " جرى إيه ياد دة أنا آكل مصارينك صاحي...ياد اتكلم على قدك...ما تخلنيش أنزلك...دة أنا قلبي ميت!) حتى إنه ليدهشك كيف تنطلق هذه الكلمات "الرشاشة" من بين الشفتين الصغيرتين السمراوين هاتين!الفئة التي تلي التباعين هي فئة السواقين من غير المالكين...يعني السواق اللي شغال على عربية لا يملكها...وهذا يمكنك أن تتعرف عليه من خلال قراءة وجهه وطبقة صوته, فهذه الفئة لوحظ عليها من خلال الدراسة انخفاض نسبي في الصوت وهو عرَض مصاحب لنظرة منكسرة في العينين (لأنه عايش بنفسية موظف) !بعد السواق غير المالك, يأتي السواق المالك اللي عربيته عليها أقساط !...ودة تعرفه من ملمح أساسي يتمثل في كونه بيسوق العربية "بحنية" ...يعني مابيتعافاش ع العربية...مش عليها أقساط ؟!فوقهم في التراتب يأتي السواق المالك والذي خلّص الأقساط اللي على العربية... ودة بقى تلاقيه فاتح صدره للحياة وتجده يتعامل مع الراكبين بنفسية "الرأسمالي غير الوطني"! وقد تلمح على وجهه إذا أنت طالعت انعكاسه على المرآه التي أمامه والتي تكشف له الشارع من ورائه- تلمح نظرة تشبه تلك النظرة التي تجدها في عيون الطيارين ...نظرة ثقة مشوبة بتعجرف وكأن لسان حاله يقول: انت هنا في منطقتشي! يعني تلعب اللعبة بقواعدي أنا...!فوق هؤلاء يأتي منظم الجدول ....ودة بقى الرجل الذي يعمل في الخفاء...دة الرجل الذي يمسك بخيوط العرائس الخشبية والذي لا يحتاج لأن يتهدد أو يتوعد...إذ تكفي نظرة من عينيه لتنفض الغاغة وتدخل الأمور طيّ السيطرة... ودة بقى تلاقيه أكبر سنا من معظم السائقين وتلاقيه واقف في الموقف –كما السبع- بيلم الإتاوات! في مقابل إيه؟ ماعرفش! طب بيهابوه ليه؟ برضه ما عرفش...مرة سألت سواق في لحظة صفا كدة عن سر سطوة الأخ اللي بيلم الإتاوات دة وليه بيتعاملوا معاه كما لو كان "رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير" فقاللي شيئا من قبيل إنه –البلطجي- في الغالب بيلعب دورحلقة الوصل بينهم وبين نقطة الشرطة في المنطقة...وآخر قال إنه بيبقى "بلطجي ابن حرام " واللي يزرجن و ما يدفعش الإتاوة ممكن يزق عيل بشوية مية نار ولا مطوة يجيب بطنه! وفي رواية أخرى فإن هذا البلطجي هو الشخص المنوط به الاضطلاع بمهام الحماية "واللي ما لوش كبير بيشتريله كبير يا أبلة!"...فوق هؤلاء وأولئك ودولهمّ ودوكهمّ جميعا يأتي سعادة الباشا "حا الظابط" ...ودة بقى زعله وحش وحش وحش! ودة بوز الهرم- أقصد قمته- في هذا المجتمع المصغر...وإن كان مش كدة في مجتمع الظباط...وهكذا...يمكنك بوضوح أن تلمس نمط العلاقات السائد في هذا المجتمع, فبينما ياخد التباع على قفاه من السائق غير المالك, يأخذ السائق غير المالك على قفاه من المالك كما يحترم الحدود بينه وبين السائق المالك خصوصا لو كان مخلص أقساط العربية!...والنمط يتكرر هكذا دواليك ابتداء من قاعدة الهرم المتمثلة في التباعين ووصولا إلى قمة الهرم المتمثلة في الباشا حا الظابط مرورا بالسائق غير المالك فالسائق المالك اللي عليه الأقساط ثم السائق المالك اللي خلص أقساط العربية ثم البلطجي اللي بيلم الإتاوة ويمنع ويمنح فيما يتعلق بمين العربية اللي تحمل الأول ومين اللي تطلع آخر النهار!وهكذا ما أن أتعاطف مع طبقة حتى أجد من هو أجدر منها بالتعاطف...ثم إني أدركت كيف أن العلاقات البينية في هذا الهرم متشابكة وحتى الأدنى لديه وسائله الالتفافية الالتوائية التي يعرف كيف يدير بها علاقاته مع الأعلى في التراتب بحيث تنتهي في صالحه أو على الأقل بأقل الخسائر عليه...ودي بقى يا فندم اسمها "سياسية"...لأن السياسة مش بس لعبة قصور الرئاسة وأروقة الدواوين الحكومية...السياسة وفقا لأحد أشهر التعريفات النظرية هي who gets what when and how يعني مين يهبش إيه وإمتى وإزاي...ووفقا للتعريف دة فإن كل سلوك إنساني هو سلوك سياسي سواء كان الفرد داريان إنه بيلعب سياسة ولا مش داريان...ووفقا للتعريف دة فإن مجتمع "سواقين العربيات اللي بالنفر" اللي هي الميكروباص هو مجتمع highly politicized أي مجتمع بيلعب سياسة ...ومن العيار الثقيل كمان!



كانوا أربعة...تلات بنات وولد...واحدة منهن كانت جميلة...دقيقة الملامح لها جسد ضئيل بض...تثبت في أنفها حلقة غجرية تزيدها جاذبية... لكن –ويالدهشة- هذه المرأة الصغيرة الجميلة كانت تحمل صورة ذهنية لنفسها مشوهة لدرجة كرهت معاها المرايات وألواح الزجاج وواجهات المحلات والكاميرات وكل ما يصلح لأن يعكس صورتها أمام عينيها...الثانية كانت تسمي نفسها الطفلة الديكتاتورة...نحيلة عصبية غيورة متحكمة تحب وتكره بنفس العواصفية والشطط...تدخن بشره ॥تنتحب بعويل موجع وتضحك بصخب رجل عربيد...الثالثة بوهيمية محبطة...لا تريد من دنيا الله أكثر من ثالوث البوهيمية الأقدس: الحب والحرية والجمال...ودنيا الله أضن –على ما يبدو- من أن تمنح الحب والحرية والجمال لامرأة واحدة...مغتربة في كل المجتمعات...لديها قناعة بأنها تتحدث لغة لا يفهمها سواها وأنه ما من أذنين يمكن أن يستوعبا ما تقول ...روحها لا تهدأ وقلقها لا يكاد يسكنه مسكن...حظها الفقير مع الرجال أورثها حزنا عميقا ...ولغة جسد صبيانية!...الفتى جميل القسمات... فقير, له كل عقد الفقراء وثورات الفقراء وأحلام الفقراء وتمرد الفقراء وقدرة الفقراء على الضحك...وإن كان ليس أسهل من أن تدمع عيناه... وليس أسهل من أن ينهار بتكوينه النفسي الهش وضعف إرادته, على الأقل إذا ما قورنت هذه الإرادة بقوة غضبه...جمعتهم ليلة خريفية باردة لم يحسبوا لها حسابا ولا خططوا لها...اجتمعوا بغير ميعاد...بغير موضوع مشترك ولا خلفيات متشابهة ولا عوالم داخلية متقاربة ولا الواحد منهم يعرف الباقين حق المعرفة ولا حتى يدرون ما ألف بين كياناتهم في تلك اللية...كل واحد منهم جاء من عالم بعيد...كل يصف عالمه للآخرين الذين يستمعون بفهم مبتسر وإحساس مشوش ...تحكي الجميلة ذات الحلقة الغجرية في أنفها عن قبحها ودمامتها المتخيلة وتتحدث بشهوة عن الموت, فلا يفهمون من أين ينبع ذلك التناقض بين ما تقوله عن قبحها وبين ما تراه أعينهم من جمال في ملامحها وجسدها! وتحكي الديكتاتورة الصغيرة بعصبية وغل عن رجل أحبته لكنه "كسر أنفها" و"جرح كبرياءها" و"سحقها" وكيف أنها تعرف كيف تنتقم منه, فينصتون لها بتعاطف وإشفاق ممزوجين باشمئزاز من طبيعتها المنفرة وشماتة في أنفها الذي كسر, فلا هي يهمهم أمرها حقا ولا هم يحزنون لكبريائها الجريح ولا هم عرفوا الفتى "الساحق" ولاكيف سحقها, وكل ما يسعهم هو الإحساس بنصف تعاطف مع امرأة شابة تأكلها عصبيتها أكلاويحرق صدرها دخان السجائر الذي تتنشقه كما تتنفس الهواء! وتحكي ذات البوهيمية المكبوتة كيف أنها لا ترى ما تطلبه من الدنيا كثيرا حقا ولا تدري سر بخل السماء مع دعائها الملح...فما تريد, كل ماتريد, هو قصة حب حقيقية تجري تحت سماء بلدة جميلة في بيت بلا سقف يحجب عنها طيور الله التي ترفرف في سمائه, فيجدونها مخبولة غريبة الأطوار ولا يفهمون حقا ما حكاية الحب والجمال والحرية هذي التي تحكي عنها لكن حياءهم يمنعهم من السؤال كي لا يبدوا جاهلين! بل إنهم جميعا كانوا يهزون رؤوسهم كما لو كانوا جميعا خبراء في الحب والحرية والجمال أو كأنهم شربوا من القيم الثلاث حد الثمالة! ويثرثر الفتى الفقير بأشياء عن الثورة وعن حقه في أن يسرق الأغنياء ويحكي بفخر طفولي عن المرات التي تسلل فيها إلى محل الكتب جوار منزله ليسرق رواية رومانسية أو كتابا عن حياة جيفارا دون أن يتمكن رجال الشرطة من الإمساك به, فتنظر له الفتيات بإعجاب ...لكنه إعجاب غير مكتمل, إذ تدركن من هيئته وانكسارة عينيه أن فقره قد شوه فيه شيئا لا تقدرن على الوصول إليه فضلا عن إصلاحه... ومن يريد له إصلاحا؟ ومن يمنح من عمره لإصلاح ذوي النفوس المشوهة والأرواح المكسورة؟ خليه لما يعفن حتى!في تلك اللية التي كانت هي الأولى و الأخيرة التي جمتعهم, فكروا كيف يجعلون منها ليلة خاصة...نرقص؟ لا مش عايزين! نجوب المدينة ركضا من شرقها لغربها سويا بلا وجهة ولا قيد ولا مواعيد ولا برامج؟ لا مش قادرين!...نروح مدينة تانية؟ مافيش فلوس تسمحلهم يعيشوا ترف السفر! فجيوبهم أنظف من ضمائرهم!ثم جاءت الفكرة الساحرة...أن يجتمعوا في تلك اللية الأخيرة على سيجارة حشيش! سيجارة واحدة دفعوا فيها كل ما كان في جيوبهم وفي حقائبهم الملونة وفي ملابسهم المبعثرة....فكروا أن سيجارة واحدة تكفي لأن يسترخوا وأن تزول الحوائل والحواجز الوهمية التي أقامتها الحياة بينهم بكل ما بينهم من فروق واختلافات...لما يتسطلوا حيتكلموا لغة واحدة...حيفهموا بعض أكتر ويحسوا ببعض أكتر...فيه حواجز عقولهم مش قادرة تتخطاها في وعيها...يمكن السطل تتخطى بيهم الحواجز...وهكذا ترى المشهد...الأربعة متكومون في دائرة في بطن حجرة قذرة نصف مضيئة نصف مظلمة...يتناوبون على السيجارة المنتفخة المستطيلة...يسعلن ويسعل...تثقل أجفانهن ويثقل جفناه...خيم على أربعتهم الصمت الثقيل...ينظرون إلى بعضهم البعض بعيون لا تنتمي تماما إلى عالم الوعي لكنها لم تنتم بعد إلى عالم الغياب! الصمت بعده خامسهم الذي لا مرحبا به...من يا ترى سيبدأ بالكلام؟ وما يقول أو تقول؟ هل هو الفتى الثائر يبدأ ثورته هنا والآن؟ أم الديكتاتورة تبدأ في إصدار أوامر عصبية من نوع "قومي اعملي عجين الفلاحة...دلوقتي يا بنت الـ..." أم تراها الجميلة القبيحة تبدأ في سب الدهر الذي منحها هيئة لا تقدر إلا على مخاصمتها ومخاصمة كل مرايا العالم معها؟ أم تراها البوهيمية المكبوتة تنفجر بأغنية صاخبة أوتقوم فترقص طربة وكأن الدنيا كلها ساحة رقص لقدميها وحدها؟هسسسسسسسسسسس!! ثم...البوهيمية كانت الحلقة الأضعف! اتسطلت من أول تلات أنفاس!! انفجرت ضاحكة ضحكة طويلة طويلة مجلجلة توقظ الموتى أنفسهم منزعجين متسائلين عم هنالك!! ضحك هستيري, طاقته كل الحب والحرية والجمال المكبوتين في أعماقها...تضحك تضحك...من دون ولا كلمة! الذبذبات الضاحكة تملأ هواء الحجرة القذرة...وتنتقل العدوى للفتى الفقير رغما عنه...ينظر لها ويضحك...يرتمي على الأرض من الضحك...يضحك يضحك...لا يعرف على أي شئ لكنه لا يملك القدرة على عدم الضحك...يضحك وتضحك بجنون...تنظر الديكتاتورة الصغير إليهما بغل وقد راودها هاجس اضطهادي مسيطر: "إنهما يسخران منك أيتها الديكتاتورة فانظري ماذا أنت فاعلة"! أما الجميلة القبيحة فقد ظلت في قعدتها تتأمل السيجارة بين إصبعيها الصغيرين مستعجبة ناعية حظها: يا دي المرار يا أمه! ما أنا مدخنة معاهم نفس السيجارة؟ ليه هم قادرين يضحكوا وأنا لا أملك إلا الدموع في عيني! وانفجرت باكية!! وبدأ كل منهم يتحدث لغته: البوهيمية تضحك من دون توقف, الفتى الفقير يضحك ضحكا تقطّع تدريجيا حتى وصل إلى حالة من الوجوم ثم الصمت...الديكتاتورة تقلب عينيها بين ثلاثتهم بحذر علها تقدر على اكتشاف "المؤامرة" التي يحيكونها لها والتي هكذا تضحكهم, متوعدة بعينيها الناريتين بانتقام راعد...بس بمجرد أن تقف على الدليل على المؤامرة! ! والصغيرة الجميلة القبيحة تبكي تبكي حد النحيب...الفتى الفقير: بيعاملونا زي الحيوانات...ناكل وننام وننتج...واللي مايقدرش ينتج يبقى يروح في ستين داهية...الموسيقى والفن والجمال كل دي حاجات مش من حقنا نستمتع بيها ليه؟ عشان دي حاجات عايزة فلوس...واحنا جعانين...]بقى نجري على عيشنا واللي نبات فيه نصبح فيه...الموت أكرم من العيشة دي!البوهيمية تضحك بدون توقف!الجميلة القبيحة الباكية: يا بختها! هي ازاي بتضحك كدة؟! مش هي شدت معانا من نفس السيجارة يا جماعة؟؟ طب اشمعنى؟ أنا كمان عايزة أضحك زيها كدة!الديكتاتورة الصغيرة: خلوها تخرس بدل ما أقوم أقتلها!الفتى الفقير (ينظر للبوهيمية بتعاطف) : سيبوها يا جماعة...سيبوها تضحك...سيبوها مغيبة...ماحدش يفوقها...كلها ساعتين وترجع للواقع المهبب! أنا بس نفسي أعرف هي حاسة بإيه! أنا عمري ما ضحكت زيها كدة!صمت لا ينتهك حرمته إلا ضحكات البوهيمية الهستيرية!الديكتاتورة (وهي تسد أذنيها بكفيها): مش طايقة صوت ضحكتها العالية! سكتوها ...حا تجنن!فلما فشلوا في ترويض ضحكات البوهيمية قامت الديكتاتورة الصغيرة مندفعة خارج الحجرة وكفاها على أذنيها॥تركتهم إلى الأبد من دون وداع...وبعصبية صفقت الباب خلفها وهي تلعنهم وتلعن الليلة السوداء التي جمعتها بهؤلاء المخابيل!ثم جاء دور الفتى الفقير ليغادر الحجرة...فقام صامتا واجما بعد أن ألقى نظرة أخيرة على الفتاتين...ثم قال قبل أن يغلق الباب خلفه: لا يبدو لي أني سأقدر على القيام بالثورة التي أحلم بها...أنا أضعف من غضبي, أو هو غضبي أقوى مني...مش عارف! خليني مسطول أحسن! لكن اللي اوعدكو بيه اني حارجع بلدنا أزرع بطاطس وطماطم و اتجوز و اخلف عشر عيال...وأزرع حلم الثورة في قلب كل واحد منهم... يمكن واحد منهم يغير حاجة لما يكبر...أزرع الحلم دة قبل ما تتجمد يذرته في وجداني...قبل ما تسيطر علي هواجس عبثية أفقد معاها رغبتي حتى في الحياة...سلام!ثم جاء دور الجميلة القبيحة لتغادر الحلقة التي ضمتها مع هؤلاء الغرباء ليلة كاملة...ضمت إلى صدرها البوهيمية الضاحة التي كانت ما تزال تضحك...ضمتها بعينين باكيتين قائلة: مش قصدي أفسد ضحكتك والله ولو اني مش عارفة هي ضحكتك دي معناها انك فرحانة ولا ايه...بس انا حزينة...حزينة جدا ورحلتي مع الحشيشة الليلة أكسبتني المزيد من الحزن...وماعتقدش اني ممكن في يوم أضحك زي ما انتي بتضحكي كدة! انتي سامعاني أصلا؟ ...شكلك مس سامعاني ولا فاهماني...ثم قبلتها وغادرت باكية... وظلت البوهيمية تمارس ضحكها المخبول في جزيرتها المعزولة حتى مطلع الفجر!ولا حد عرف هي كانت بتضحك على إيه ولا حد عرف الديكتاتورة خيالها صور لها إيه بالنسبة للمؤامرة التي تحاك ضدها ولا حد عرف البنت ذات الصورة المشوهة كانت بتعيط ليه ولا حد قدر يقنعها أنها مش دميمة, ولا حد قال "يا ثورة" مع الجدع الحليوة اللي طافح الدم, ولا سيجارة الحشيش اللي كان معقود عليها الأمل تلمهم وتوحدهم وحدتهم...يا نهار اسود! حتى الحشيش مش نافع؟! حتى السطل مش شغالة؟! حتى دخان السجائر العمرانة في الحجرات المعتمة لا يحرر أحلامنا المكبوتة التي قصمت ظهرونا لكثرة ما حملناها في أحشائنا؟ حتى هذا لا يطلق ألفاظ لغتنا المتعثرة التي نتعتع بها في نهار الطواغيت ولا يستر قبحنا وعيوبنا المخزية؟ أين إذن تتحرر الأحلام المكبوتة والألسنة الثقيلة وتخفت دمامة النفوس المشوهة إن لم يكن في دخان الحشيش في الحجرات المعتمة ؟!



المجد للغة الشوارع! قيل من قبل إن صلاح جاهين بشعره العامي شكل خطرا على اللغة العربية لأنه -أقصد الشعر- حلو ومغرِ ومتسرب للعقل ومنساب للوجدان ببساطة وعفوية حتى إن القارئ لا يكاد يلحظ أن هذه القصائد مكتوبة بلغة "الشارع" إذ تباغتك ألفاظ "المقاهي والأرصفة" التي استخدمها جاهين بينما أنت مستغرق في تتبع الصور والأفكار والتخييلات التي تتخدر بها غيرة الغيورين على الفصحى...ولأنه ليس بيننا جاهين الآن, فإن الاتهام المسدد المعلق في الفراغ بعده يبحث عن متهم يلتصق به, وتأتي المدونات كفريسة سهلة لهكذا اتهام...فالمدونون متهمون بتهديد اللغة العربية بذلك المزيج الضاحك المر الساخر بين الفصحى ولغة المقاهي والأرصفة...حين أتصفح المدونات المصرية أجد نفسي أمام حالة من "طولة اللسان" التي تضحكني رغما عني! أو كما أشار واحد "حزب وطناوي" إلى هذه الحالة مشبها إياها بثقافة "سواقين الميكروباص"॥ والحقيقة كما أراها أن بعض هذه المدونات إن لم تكن كلها لا تناسبها إلا هذه اللغة...فالمدونون إجمالا يلبسون حلل "حرافيشية" صعلوكية لا تناسبها إلا هكذا لغة... ولست أتصور عالم المدونات يجند لخطابه ألفاظا متقعرة ولا لغة منمقة متحذلقة (زي اللي أنا مستخدماها في التدوينة دي كدة!)...فالتدوين فعل لا مُمأسس وهو إفراز "الشارع" السياسي المصري وهو الإفراز الذي ضخ إلى الحياة الإلكترونية المصرية ضخا عفويا لا يخلو من غضب...والغضب على الطريقة المصرية لم يخل أبدا من مضاحكات ذكية منفلتة...شاهدت بالأمس مشهدا من مسلسل "أديب" لطه حسين وكنت قد قرأت الرواية منذ سنوات وهو نص من أجمل ما قرأت في حياتي, في المشهد قال "أديب" الفتى ملتهب القلب دميم الخلقة لفتاة يتودد إليها, قال : اعزفي لنا شيئا من الموسيقى...فقالت: أعزف أنا على أن تنشد أنت شعرا وليد اللحظة...فأجاب: هذا يتوقف على جمال ما تعزفين, فعزفت...عزفت عزفا حلوا حرّك قلبه واستفز خياله وما أن كفت عن العزف حتى انطلق ينشد الشعر بلغة عربية مزخرفة قوية من دون تكلف...هذا حال شاعر لمسته جنية الموسيقى فتدفقت اللغة من بين شفتيه شعرا يغازل الآذان والمخيلات, فهل من عدلكم أن تطلبوا من المدونين أن تتدفق عبر تدويناتهم لغة شعرية أو سماوية وما لمستهم ربة الموسيقى ولا آتاهم وحي ولا مسهم إلا القرح في حرب يومية مع طواحين الحياة في بر مصر؟وإني والله –على غيرتي على الفصحى وتلذذي بتفصيلاتها وجموحها وتحدياتها واستعلائها بين اللغات- لست أخال مدونا "بيسب ويلعن أبوخاش الفساد والفاسدين" قائلا: "ويحهم...ألا تبت أيديهم وساء ما يعملون"! طب تيجي إزاي؟ دة حتى العاقلين قالوا قبلنا لكل مقام مقال।من الآخر يعني, إذا كان التدوين تاريخ المسحوقين تكتبه أيدي المسحوقين أنفسهم فالخلود إذن للغة الحرافيش والمجد لألفاظ العربجية والحشاشين!

ليست هناك تعليقات: