الثلاثاء، 23 ديسمبر 2008

My archive restored



فاضي يا اسطى؟

حكاياتي مع سائقي التاكسي كثيرة...لكل منهم حكاية غالبا ما تكون عن أطفاله ولاد الـ... أو زوجته المريضة التي أتت على جيبه وجيوب من ساندوه وعزروه, أو عسكري المرور اللي على الناصية واللي ممكن يطلع "تيييت" أهله في الرايحة والجاية إذا لم يلق عليه التحيات والطيبات من عينة "سيجارة يا باشا" أو "رايح في حتة اخدك معايا؟ والله صحيح...دة إنت حبيبي"...سائق آخر يشكو لك من "فجر البنات" وما يراه منهن في التاكسي وما يسمعه خاتما حديثه بالـ "ربنا يستر على ولايانا" الشهيرة...سائق آخر يأكل أذنيك بتقييمه للـ "مزز" على قارعة الطريق نافيا عن نفسه أية شبهة للتحرش مؤكدا أن ما يقوله لا يندرج إلا تحت قائمة نسبية وتعددية الرؤى الجمالية: "والنبي يا أبلة أنا مش باعاكس..اوعي تحسبيني باعاكس...أنا بس بأقول رأيي في المزز...حلاوة روح يعني! وبعدين أتحرش بمين...دي البنات حتى خنشرت ...إنما لازم نرفع من روحهم المعنوية برضه...ولا إييييييه؟!"...طب أرد عليه أقوله إيه والنبي هذا السائق السمج الذي -على سماجته- لا يخلو حقا من خفة ظل وعفرتة مصراوي لا تملك إلا أن تحبها!

في الآونة الأخيرة لاحظت أن سائقي التاكسي لا حديث لهم إلا البنزين الـ 80 وأزمة الحصول عليه...مرات ومرات أسمع ذات الشكوى التي تنتهي دائما وأبدا بـ "حسبي الله ونعم الوكيل"...
كل هذا تعرفونه وأكثر...
لكن حكاية سائق أمس الأول بدت لي الأكثر إزعاجا...ربما لأن السائق الشاب كان يحكيها بتلقائية شديدة وبساطة غير ملتفت لما سببه لي من نقمة ربما دراتها نظارة الشمس الضخمة التي تخفي نصف وجهي...كان الرجل يحكي لي كيف أنه حين يذهب للكشف على السيارة أو استطلاع المخالفات أو تجديد الرخص, لابد أن يصحب زوجته...قال: "مراتي لامؤاحذة منقبة حضرتك...ست بتاعت ربنا...وأنا باتباشر بيها...لما آخدها معايا المرور كل حاجة تمشي حلاوة...اليوم اللي ما اخدهاش فيه...بعيد عنك اليوم يقفل"...


ثم حكى لي تفصيلا عن تلك المرات التي صحب فيها زوجته وكيف كان القدر رحيما به إذ أرسل له ضباطا "غزالتهم رايقة" أعفوه مما يزيد على نصف المخالفات المسجلة على سيارته!!!...كما حكى لي عن تلك المرات الأخرى التي لم تصحبه السيدة البركة فيها فحدث أن "كع كل اللي في جيبه على مخالفات" يقسم أيمانا مغلظة أنه لم يرتكبها!!! لكن لأن أم العيال المبروكة لم تكن معه فقد كان يتوقع هذا وأسوأ !!! و"الحمد لله اللي جات على قد كدة يا أبلة!"

مرة وحيدة فقط هي التي لم تكن معه أم العيال لكن دعواتها صحبته و"مشي اليوم زي الحلاوة"...استقبله العساكر والضباط بمزاج رائق وقالوا له إنه مسعد وحظه حظ عوالم لأن "سعادة الباشا" غزالته رايقة أوي النهاردة وأنه اليوم سيرفع المخالفات عن كل الرخص!!!!! أصل الباشا ربنا اداله صبيان بس كان نفسه في البنوتة وربنا ادهاله...وكان نذره أمام الله الذي وهبه البنت أن يرفع المخالفات عن رخص عباده لمدة يوم!!!!!!!!!


يقول السائق لي هذا وهو يحمد الله على دعوة أم العيال التي ساقته إلى المرور في ذاك اليوم دون غيره!! يقولها برضا...وكأن طبيعة الأشياء أن تسير هكذا...بكل هذا القدر من التحسبات الميتافيزيقية الغيبية الماوراءية...وش أم العيال ودعوة الحاجة في الصبحية وغزالة سعادة الباشا الرايقة...هذا ما يحدد في بلادنا كيف تسير المؤسسات وكيف يعاقب مرتكبو المخالفات وكيف ترفع المخالفات عن آخرين إذا كان مزاج القائمين على المرور رائقا في يومها!!! هذا ما يحدد كيف يسير يوم المواطن ويحدد علاقته بأولي الأمر في بلادنا!! هذا...لا القانون ولا حقوق المواطن ولا التزاماته ولا لوائح المؤسسات ولا حتى التفهم والقدرة على وزن الأمور.
يومها نقدت السائق ضعف أجرته المستحقة...كأني كنت أعتذر بها ضمنا عما يجري في بلادي...أعتذر له عن أني درست العلوم السياسية والإدارة وحقوق الإنسان... لكنه لا يزال بحاجة إلى أن يتسقط أخبار مزاج سعادة الباشا ضابط المرور قبل أن يسأل عن مخالفاته ...فدراساتي وكتاباتي ما غيرت من واقعه شيئا!
روتين!
سأرفع شعري لأعلى-كما تحبه- ثم آتي لأجلس جوارك صامتة...ستقول بصوت عميق: أنصتي يا صغيرتي...أنصتي وتعلمي, مشبها نفسك بالسمكة "فالسمك لا يتعلم...السمك يعرف!"ستقول شيئا ما لاعنا ضيق أفق الإصلاح في مصرثم تقول شيئا ما حانقا على سخافة جبهة الإنقاذ في الجزائرثم تقول شيئا ما شارحا عن وحشية السجن الانفرادي الذي يأتي على سلامة العقول في تركيا, والذي لا يُزج إلا بكبار المفكرين والسياسين إليه!ثم تستنكر غاضبا أن يدبن العالم عمليات المقاومة في فلسطين والشيشان وأفغانستانثم تبصق على الأرض ذاكرا أمريكا بلفظة بذيئة!وأنا أجلس صامتة... ستضيق بصمتيستدخن سيجارة بعصبية...سيجارتينوأنا بعدي على صمتي...ستقرأ لي صفحة -لن أفهم منها حرفا واحدا-اخترتها عشوائيا من كتاب الفلسفة القديم الذي ابتعته من على أحد الأرصفة بقروش زهيدة قبل شهور, والذي ولم تفرغ من قراءته بعد...ولا يبدو لي أنك ستفعل أبدا!ثم ترميني بأني مثل الآخرين- كل الآخرين- أبيع عقلي وروحي, وأني أرضى العبودية!وسأظل صامتة...ستتلفت حولك بعيني رجل ضاقت عليه الأرض بما رحبت ...ثم تزفر بصوت مسموعوأنا بعدي صامتة!هل انتهيت الليلة ؟ هل اكتفيت احتقانا؟ هل نام الثوار -في داخلك- متعبين لكثرة ما ثاروا وأجهضت ثوراتهم؟! هل قنع المحاربون -في عقلك- بأنه آن لهم أن يهادنوا قليلا قبل أن يعاودوا الكرة؟دعني إذن أحرر شعري- كما أحبه أنا- وأجالس نفسي أمام النافذة !

أتعبتني يا مارسيل!

مارسيل...اسمه مارسيل.. مجنون...لأ مجنون مجنون بجد...اللي هو يعني بيسمع أصوات وبيشوف ناس في فضاء حجرته وبيتصور حاجات لم تحدث إلا في مخيلته هو...فصام ولا ذهان ولا بارانويا ولا حالة الزهايمر متقدمة ماعرفش...بس هو ببساطة ولا علمية كان في عيوننا رجلا مجذوبا...كنا نعرف...كان الكل يعرف...وكنا نحاول أن نشعره بأنه لا بأس...وهو فعلا لا بأس! من منا يختار عقله؟!

هل كان قد تخطى السبعين حين التقيته العام قبل الماضي؟ لست أذكر الآن...

لطالما استوقفني في الصباح الباكر في طرقة المبيت المظلمة وشعره الأبيض مهوش ونظراته زائغة ليسألني بصوت منخفض ولفتات بوليسية: "شوفتيهم؟ بتوع المخابرات الروسية؟ شوفتيهم؟ فتشوا حجرتي وبعثروا أغراضي الملاعين...لن يجندوا عقلي لن يفعلوا...سأظل هاربا منهم ما حييت ولن يوقعوا بي...فعقلي ملك لي وحدي"...فأقول في ذهني: "صبحنا وصبح الملك لله! يا مارسيل اصطبح يا مارسيل!" بس يرجع يصعب علي فأقف أنصت باهتمام ربع ساعة نص ساعة ساعة زي ما ربنا يفتح عليه, وبعدين لما أتعب من الوقفة أخده من إيده وأقول له: تعالى نشرب شاي سوا في المطبخ يا مارسيل ونبعد عن حجرتك عشان أنا متهيألي ان بتوع المخبارات الروسية لسة جوة...!

كان ثريا جدا على ما فهمنا أو على ما كان متواترا عنه من حكايا...وكان وحيدا جدا على ما رأينا, يسير معظم الوقت في الشوارع جارا وراءه حقيبة صغيرة بعجلات...فتحها لي ذات يوم وهو يتلفت حوله خائقا مترددا كما لو كان ينتهك لأجلي قدس الأقداس, فلم أجد فيها إلا الجرائد!! جرائد بالإنجليزية, جرائد بالفرنسية, جرائد بالهولندية , جرائد بالألمانية!

لو لم أكن قد شاهدت قبل لقائه فيلم "عقل جميل" بتاع راسل كرو وعرفت أنه مبنيَ على قصة حقيقية ما كنت صدقت أنه قد يوجد في الدنيا مارسيل! كان يفعل تماما مثل جون ناش في الفيلم...يجمع قصاصات الجرائد بالأطنان يختفي لأيام مع جرائده قبل أن يخرج علينا بتحليلات سياسية متماسكة حد الإدهاش...كان موسوعي المعرفة , علوم تلاقي تاريخ تلاقي ميثولوجي وأساطير شغال وكان يجيد عددا من اللغات...وكان أكثر من بارع في عزف البيانو...

كان في كل سبت يتأنق ع الآخر, بدلة بصديري وربطة عنق وكوفية صوف شيك ويتكلين بقى, ثم يمر على أبواب حجرات المبيت باب باب وحجرة حجرة: يلا أنا عامل كونسيرت الليلة في بدروم المبيت يلا حاسمعكو الليلة مقطوعة لشتراوس...(وكان البدروم فيه مراتب قديمة وكراسي مخلعة وكنب بيزيق وبواقي سراير وملل..وبيانو!) لكن هذه الكراكيب لم تكن لتثني عزم مارسيل أو تمس أناقته...حيعزف يعني حيعزف! ولما كنت أدخل البدروم أنا أو أي من ساكنات المبيت كان يوقف العزف, يقوم لينحني للسيدة الداخلة ويقبل يدها قبلة أوروبية من بتاعت الأوبرا في القرن التمنتاشر ثم يستدير ليستكمل العزف باستغراق مدهش! كما لو كان في الأوبرا بجد وكما لو كنا سيدات مجتمع بجد (واحنا داخلين عليه اللي لافة شعرها رولو واللي لابسة بيجامة كستور واللي داهنة زبادي وعصير جرجير على وشها -وكما لو كان البدروم القذر مش بدروم ومش قذر!
لم أكن أخشاه...كان على جنونه المستفحل وهذيانه اللا متناهي لطيفا كطفل...كان يمكنني أن أرى بوضوح في عينيه نقاء وخوفا طفوليين...كان قابلا لأن يوضع تحت السيطرة بكلمة لينة أو كوب شاي مع قليل من الإنصات...لكنه كاد يثير جنوني أنا الأخرى في المرات التي كان يتركني فجأة ويجري مذعورا وهو يردد: "حيقتلوكي...لو شافوكي معايا حيقتلوكي...مش لازم يشوفونا سوا!"...أتعبتني يا مارسيل...راعاك الله الذي لا ينسى عباده!
والله العظيم فيه بلد اسمها مالطة!
أنا قالولي قدمي طلب... هو الموضوع كله بدأ كدة...قدمي طلب.. ولازم الطلب يتسرك –يعني ياخد رقم ساركي- ولازم تعرفي رقم الساركي بتاع الطلب عشان لما تبقي تسألي عليه في شئون العاملين تبقي عارفة... أمال يعني تسألي على طلب ما نتيش عارفة رقم الساركي بتاعه؟!! اتهبلتي ولا إيه؟!طب يا جماعة فين؟ فوق...فوق فين؟ فوق في الشئون... الدور السادس...طيب مين؟اسألي على الأستاذ عماد أو المدام كوثر...مدام كوثر ... امرأة أربعينية لابسة بلوزة حرير في حرير أبيض في اسود وجوب (جونلة يعني!) كحلي تحت الركبة بسبعة سنتي كدة ولابسة ايشارب حرير صغير أخضر في أزرق في أحمر ومطلعة مقدمة شعرها – أي قصة بضم القاف- والتي يظهر منها بوضوح كون المدام كوثر عاملة شعرها حنة بالكركم من كام يوم!! ...ماشي وماله.. مدام كوثر بدأت الـ communication الإنساني معايا بداية مش ولابد...بدأت بنظرة حريمي من فوقي لتحتي (عارفينها النظرة بتاعت أخذ المقاسات دي؟!) ثم تبعتها بلفتتات سريعة خاطفة لزينة الوجه والحلي, مصحوبة بمضغ سريع مكثف وقوي للعلكة (اللبانة) اللي بين أسنانها...قبل أن تقول- مين قاللك يا حبيتشي ان احنا بنعمل شهادات خبرة؟ انا عمر ما حد قدملي طلب شهادة خبرة ...عشان إيه شهادة خبرة يا حبيبتشي؟ فقلت لها: أصل أنا مسافرة أخد كورس برة ومطلوب مني شهادة خبرة مهنية نخاطب بيها شئون الطلاب في جامعة مالطة...سألتني –وكانت بعدها تلوك العلكة بين أسنانها: - إيه؟؟إيه مش سامعة...بس يا عواطف خليني أسمعععع...أيوة با حبيبتشي قلتي إيه؟ مالطة؟ لا ياحبيتشي أكيد انتي فاهمة حاجة غلط...مافيش بلد اسمها مالطة!! يا أستاذ عماد...أستاذ عمااااااااد...والنبي إمسك يا أستاذ عماد شوف الأبلة دي عايزة إيه...روحي يا أختشي هو معاه ملفات المستخدمين من 2003 لـ 2005...ثم شيعتني بنظرة المقاسات إياها مرة أخرى وهي تستئنف حديثها العابر للمكاتب وملفات المستخدمين المتربة المتكدسة:-يا أستاذ عماد...بتقوللك مالطة...إيه مالطة دي يا أستاذ عماد؟ فيه حاجة غلط مش كدة؟ أنا برضه بأقول كدة...مررت بين المكاتب في المساحة الضيقة المتاحة وكل ما اعدي على مكتب أوقع ملف ولا علبة ورق دمغة وأعتذر للموظف الذي في الغالب لا يكترث إلا للملمة ما بعثرته أنا بعد منحي نظرة نارية بتعذب ضميري لحد دلوقتي...كل اللي كان مسيطر علي رأسي لحظتها هو حقيقه ان مدام كوثر بقدرة قادر مسحت من على خارطة العالم دولة مكونة من ثلاث جزر!ما رضتش بقى أفحمها وأقوللها ان الليرا المالطي الواحدة بتتفك بستاشر جنيه مصري أحسن يجرالها حاجة!!المهم... رحت للأستاذ عماد...أستاذ عماد ما بصش في خلقتي أصلا...كان بيتجنب يبصلي ...يبدو أنه كان على وضوء ولا تثريب...بس دة أربكني جدا وكرس عندي احساس بأني "امرأة لعوب" لابد من تجنب إغوائها! أو بأني أحاول أسوق دلالي عليه مثلا على طريقة "سماره ه ه ه ه ه ه !" (بمد الهاء على سبيل الإغواء) بينما هو يأبى ويستعصم!! المهم الراجل مكانش متأكد أوي إذا كان فيه حاجة اسمها مالطة ولا لأ وما يهموش أوي موضوع مالطة دة, لكن اللي يهمه واللي يعرفه يقينا هو انه مافيش حاجة اسمها شهادة خبرة للعاملين!!...- يا سأتاذ حسين...أستاذ حسييييين...والنبي جايلنا بس طلب غريب ممكن تبص عليه؟... شوفي يا آنسة (دون أن ينظر في وجهي) الأستاذ حسين هو أقدم واحد في المستحدمين...لو أشرلك على الطلب تعاليلي و أنا أمشيهولك على طول...جيبنا لأستاذ حسين...-أيوة يا أستاذة اتفضلي...ما شاء الله ما شاء الله...انتي مش متجوزة يا بنتي؟ ليه بس كدة؟ هم الرجالة اتعموا في نواضرهم ولا ايه بس؟! هيهيهيهي... ايه يا حلوة قولي عايزة ايه ستو أنا؟ ايه دة؟ مالطة؟ آه مالطة طبعا فيه مالطة...بس دي مش دولة يا ماما...مين قال دولة؟ حد قاللك دولة؟ لا يا بابا دي مش دولة ولا حاجة دي حتة بتاعة كدة في البحر المتوسط...جزيرة كدة مافيهاش حكومة ولا بتاع...شوفي يا بنتي لو انتي مصرة ان مالطة دي دولة يبقى تنزلي بتوع الشئون السياسية تحت في الرابع عند أستاذ عزت وخليهم يكلمونا هنا يقولولنا مالطة دي دولة عشان يبقى الطلب ماشي صح بس...عشان احنا بنخاطب جهة رسمية يا بنتي ولا انتي عايزة الطلب يقف ولا ايه؟ هيهيهيهيهي! حلوة البطة أوي! قلتيلي اسمك ايه تاني؟ آآآآه...هيهيهيهي! حلوة أوي ما شاء الله...أهلا بيكي يا أمورة نورتي المكتب يا حلوة...أجيبلك حاجة ساقعة يا ستو؟!
وهكذا نزلت الرابع ثم عدت للسادس قبل أن أعرج على الثاني ثم أعود للسادس وبعدين أنزل الرابع مرة أخرى وانقضى اليوم والأيام التالية وأنا أهرول في أروقة الحكومة المصرية أدافع عن الوجود المالطي الضروري إثباته -بداهةَ-قبل مخاطبة الموجود!...وفي النهاية أسفرت الجهود المكثفة عن اعتراف- ضمني- من جانب شئون العاملين بوجود كيان يقال له "مالطة" وأن هذا الكيان يمثل دولة مستقلة معترف بها من المجتمع الدولي و أنها-كمان- عضو في الاتحاد الأوروبي وأن هذا الكيان يمكن مخاطبته من جانب السيد رئيس قطاع شئون العاملين, وهو الاعتراف الذي تجلى في قبول الطلب شكلا...وكان أن قدمت الطلب بخط الايد على أن يقوم عامل الآلة الكاتبة (الآلة الكاتبة بتاعت السبعينات دي) فيما بعد بكتابته على ورق المخازن الذي يحمل شعار المؤسسة الرسمي, و طبعا حفظت رقم الساركي زي عينيه ثم بعدها بأسبوع عدت للأستاذ حسين -بتاع حلوة البطة- مرة أخرى:
-أهلا ستو أنا أهلا...هيهيهيهي...تعالي يا حلوة تعالي...أيوة أيوة طلبك خلص...هيهيهيهي...طعمة أوي...أهه يا ستي الطلب...جاهز ومدموغ ومختوم بهتم النسر...أجيبلك حاجة ساقعة؟؟ طيب ..أهه اقري كدة مكتوب ايه...استني ما أحطلك نضارة القراية...أيوة أهه:"من قطاع شئون العاملين بالمؤسسة قسم المستخدمين بنظام القطعة إلى الجامعة في قبرص"...إيه رأيك كدة؟ مش قبرص برضه يا قطقوطة؟! ما أجيبلك بقى حاجة ساقعة يا حلوة؟!

قناة مصر الإخبارية...ما هذا؟!

ريموت الدش بتاعنا عملها وأقلع عن القيام بدوره كريموت متحولا بإصرار شديد إلى كتلة بلاستكية سوداء ,صماء أزرارها الملونة!ولأن الريموت لعب الدنيئة معايا ولأني كنت صاحية من النوم ولسة منعوسة ولما كانت لي رغبة صباحية في تدليل ذاتي فقد قررت أشرب قهوتي أمام التلفزيون...

-تشوفي إيه يا حلوة؟ (دة أنا باكلمني!)

-مافيش خيارات يا لوزة...ريموت الدش بايظ يا زلابيا!

-طب إيه؟ آخرتها أبتدي يومي مع "النيل...قناة مصر الإخبارية"؟!


وتقدرون وتضحك الأقدار وأمر الله ونافذ وكدة!

وضغطت على الزررررررررررر...وظهرت أمامي قناة مصر الإخبارية...
ما هذا؟ مااااااااا هذا؟
شوكالاتة في الفصل؟؟؟
ما هذا الأداء الردئ؟ ما هذا الكم المخزي من الأخطاء اللغوية النحوية والبنيوية؟ ما هذه الصياغات الإخبارية الركيكة والمكررة حد الإملال والابتذال والبرامج الحوارية التي لم تكتف بكونها موجهة بل زادت عليها بأن خرجت للنور هزيلة فقيرة في مادتها ضعيفة حتى من منظور مهني بحت...وبعدين ما هذه الوجوه الملطخة بأصباغ هي أبعد ما يكون عن التناغم واتساق الألوان ولا أقول الجمال فهو أبعد ما يكون عما رأت عيناي...
وإيه الشياكة دي؟! لأ صحيح والنبي إيه الشياكة دي؟!ما فيش واحدة عندها نظر تلقي نظرة على مذيعات القناة قبل أن تبث صورهن لتزيد مساحات التلوث البصري الذي أصبح يطاردنا أينما وجهنا وجوهنا؟! لا لا لا...شوفوا كله يمكن له أن يغتفر إلا أن تسمع مذيعا -اسم الله طول بعرض وحلو كدة- وقد شابت نطقه الحروف لثغة ُ لا تخطئها أذن! ولا الأخت التانية دي أم صوت مؤذي...عادييييك! خرمتلي ودني؟ قريبة مين دي عشان يشغلوها بالصوت المؤذي دة؟ دي لازم قريبة واحد كبير جوي جوي وله باراستيج كبير جوي جوي! وإيه المونتاج دة؟ لو أي قناة محترمة حصلت فيها الأخطاء الفنية اللي حصلت على مرأى من عيني اللي حياكلهم الدود دول (عنوان خير إيران نووي والإنسيرت -المقطع المرئي- إيران نووي والخبر اللي بتقراه المذيعة عن اليابان! معلش كلها بلاد ربنا!!) كانت أقالت الفنيين بتوع القناة...فهل يا ترى دة حصل؟
بلاش كل دول...طب أقله القائمين على تلك القناة الفضائية الإخبارية التي تحمل اسم نهرنا القديم طويل البال والمسير, مش يقفوا وقفة مع نفسهم؟ مع أدائهم الذي يعكس أوضاعنا وينشر غسيلنا الوسخ برغم كل محاولات التزين والتجمل؟ ولا أستغرب شيئا على قناة كانت مديرتها السابقة تختار العاملين لديها وفقا لمكان سكنهم "عشان لازم يبقوا ولاد ناس"!! يعني لو كانوا أهلك طفحوا الدم عشان يعلموك ومهما يكن برأسك من قدرات إبداعية وطموح وعزم على التغيير بس ساكن في حتة "بلدي" يبقى تقعد على القهوة اللي على ناصية شارعكو أكرملك...الشغل في قناة مصر الإخبارية قاصر على هوانم جاردن سيتي وبهواتها!

وبعدين يا جماعة -ودي نصيحة لوجه الشيطان- الإعلام الموجه دة بالذات لازم يكون في منتهى الجاذبية وإلا كيف تخترق الرسائل التي يراد لها أن تصل إلى عقول المشاهدين اللي مطلوب إحكام السيطرة على دمغتهم في عصر السموات المفتوحة اللي بيقولوا عليه مالم تكن الحنظلة مغلفة بغلالة لطيفة من سكر ؟

أذكر أنه قبل سنوات كثر الطعان في قناة الجزيرة واتهمتها بعض الدوائر بأنها أداة عمل صهيونية وأذكر وقتها أن من أفضل ما قرأت من تعقيبات على هذه الاتهامات كان تعقيبا للصحفي الكبير فهمي هويدي إذ قال ما معناه: إنها قد تكون كذلك أو مهما تكن لكن ليس لأحد أن يعيب عليها حرفيتها ورقي أدائها وقدرتها على التواجد في قلب الحدث بينما يحدث... يا ريت الإخوة ولاد الناس الكويسين القائمين على قناة النيل والذين يفترض فيهم أنهم يمثلون كريمة الكريمة في بلدنا يقعدوا شوية قدام قناة الجزيرة أقله يتعلموا مخارج الألفاظ!
فوجئت الليلة فقط بأن موقع حزب العمل على الإنترنت ناشر لي ثلاث تدوينات -على الأقل- دون أن يشير إلا إلى مصدر إحداها فقط...صحيح الموقع لم ينسب الأخريين إلى حد غيري لكنه من غير الأمانة كذلك ان السادة القائمين على الموقع شغالين copy & paste من على مدونتي دون الرجوع إلى أو حتى الإشارة لمدونتي باعتبارها مصدر المقالات دي...

وأنا من هنا بأوجه كلامي للأخ محرر موقع حزب العمل اللي ماسك الـ mouse وشغال copy & paste من على مدونتي وأقول له:
سيدي اللص الفاضل,
أقرئك سلاما عطرا وبعد,
تصدق كدة عيب؟ عيب ومايصحش اللي انت بتعمله دة...عاجباك تدوينة خدها وانشرها دة حتى شئ نفرحله, لكن بالأصول يا غالي يا ابن الغاليين...أنا -يا سيدي- واحدة مؤمنة بأن تداول المعرفة و الأفكارأو اللقطات الساخرة والقفشات الشقية أو الحالات الإنسانية مش لازم يكون عليه سلطان ولا رقابة... أمال احنا بندون ليه؟ مش عشان نشارك اخواتنا في الإنسانية التراكمات المعلوماتية والفكرية والفكهية والنكدية التي لدى الواحد منا؟ إنما يعني تتسلل للمدونات وتغذي الموقع بتاعكو من غير ما تشير للمدون صاحب الفكرة أو اللقطة لأ...بجد عيب ومايصحش...وبعدين انتو موقعكم المفروض واجهة للحزب بتاعكو اللي هو محسوب على التيار الإسلامي في مصر يعني التصرفات -حتى الإلكتروني منها- لازم تبقى حذرة أكتر من كدة عشان مصداقية عملكم السياسي والإعلامي على الأقل...
وبعدين ممكن أفهم ليه - يا سيدنا بتغير الصور اللي أنا بأرفقها بالتدوينات بتاعتي؟ فيها حاجة خارجة ولا أبيحة لا سمح الله؟ طب دة أنا حتى باهتم أيما اهتمام بالصور وباقضي ساعات لا أعمل فيها شيئا إلا أن أتشرب مكونات هذه الصور وأحاول أن أحسها وأتفاعل معها لأنتقي أقدرها على التعبير عما في نفسي...إيه؟ بتغير الصور بتاعتي ليه مش فاهمة؟ بتصادر ليه على حقي في اختيار الصور اللي أنا أحسها وأرفقها بالكلام اللي أنا باقوله؟ وكمان عنوان إحدى المدونات متغير! دي مصادرة...
وفي نهاية الرسالة أحب أقولك : مرحبا بك متسللا إلى مدونتي سارقا أفكاري مغذيا بها موقع حزبكم, وأعترف أمامك بأني يداخلني انتشاء -لا أخفيك إياه والا أبقى كدابة- نابع من كون مدوناتي قد لاقت إعجابكم الغالي...لكن لو سمحت لما تعجبك حاجة تاني من على مدونتي وتنوي تاخدها لو سمحتتتتتتتت يعني تبقى ترفق رابط المدونة بالتدوينة أو تشير لمصدرها على الأقل...

ويا ريت أشوف من سيادتكم ردا توضيحيا على التدوينة دي قريب... يكون اعتذار يكون استئذان في نشر تدوينة تانية يكون توضيح موقف على أسس أيديولوجية أو فلسفية يكون زي ما يكون...أي حاجة بس...
خللي بالك من نفسك وابقى طمني عنك
أسيبك في رعاية الله
بإخلاص,
أنا!


طبعا شاهية الكلمة الحلوة

آني فلاحة...وأبويا فلاح...وأمي فلاحة...واتجوزت فلاح ...وعايشين م الفلاحة...وعندنا جاموستين...احنا نواحي الفيوم كدة......دي بعيد عن مصر دي؟ لازم بعيد. احنا نواحي الدير كدة اللي على أول البلد...عند جناة (قناة)المية... كل يوم من طلعة السمس نجري ع الغيط...من طلعة السمس لآخر النهار واحنا في الغيط...كان نفسي عيالي يعيشوا عيشة تانية غير عيشتنا دي...يروحوا المدرسة وكدة...بس مافلحوش في التعليم كلتهم...البت الكبيرة بس اللي كملت فضلت تتحايل علي: والنبي يا امه أكمل والنبي يا امه أكمل ...هي نبيهة أصلها اسم الله نورة يعني...فجلت لأبوها سيبها يمكن دي اللي تنفع نفسها وتكمل ولما يجيها عدلها يبجى اللي ربنا يريده بجى...باجي العيال اللي منهم بيشغل مع أبوه في الغيط, واللي منهم بيشتغل جفاص( قفاص) مع عم دسوقي...بيعملوا أقفاص وكدة عشان الفلاحين يلموا فيها الطماطم يعني والبطاطس وكدة انتي فاهمة يا ست...
لا لا..آني ما تعلمتش...آني اتجوزت رزق جوزي وآني لسة صغار كنت 17 سنة...وبس بجى...ومن ساعتها وآني بافلح الأرض معاه...آه..أمال لأ؟مين؟ آني؟ ألبس زيك كدة؟ دة آني مرة لبست بنطلون وبلوزة زيك كدة يا ست جام رزق جوزي حلف علي بالطلاج...والنعمة...هي الجلابية... الله يسترنا بيها بس...
دلع ازاي يعني؟ كلام حلو يعني ....مين حيدلعني يعني ياحسرة؟ أبويا الله يرحمه الحاج أبو طاهر هو الوحيد اللي كان يحنن علي يعني...كان يحبني آني دوناً عن باجي اخواتي...كت البت الوحيدة إيوة...لكن من ساعة أبويا ما مات وآني ماحدش يعني بيجولي كلام حلو وكدة...ههههههه...لا ولا أبو العيال لأ...بيجوللي يا مَرَة احنا كبرنا والواد الكبير شنبه خط لا مؤاخذة...احنا عايشين عشان العيال دي والنبي...أيوة طبعا شاهية الكلمة الحلوة وآني مش ست؟ ما ني ست زي باجي الستات دة آني شخت جبل الأوان بأوان يا ست ووشي كرمش من جلة الكلمة الحلوة بس العيشة صعبة الواحدة يا ختى مننا تلاجيها بتنسى روحها...بعيد عنك يا ختي الواد الوسطاني يا كبدي ما بيسمعش...أهه...استني أشاور له يجيكي...شوفي اسم الله عليكي زي الجمر بس يا كبدي ما بيسمعش...لأ ولا بينطج ولا أيها حاجة...(محدثة الطفل بإشارات بدائية وتعبيرات وجهها): تعا سلم على الست...مد إيدك يا واد...(ملتفتة إلي): ولدته كدة آني...ومافيش فلوس نوديه المدرسة بتاع الخرس دي اللي في المركز اللي بعد السكة الحديد دي عارفاها؟ ...ما هي الركوبة بكام والمدرسة بكام...أهه أخوه الكبير خده يبجي جفاص (قفاص) وياه...آني كان نفسي يروح المدرسة إكمن يعني شغل الجفاصة خطر (بكسر الخاء والطاء) عشان لامؤاخذة إيه انتي بتجطعي الخوص دة بالسكينة الحامية دية واللي غشيم يعني لا مؤاخدة ممكن يجطع إيده...أهه شوفي..الواد صباعه الوسطاني طار...التعليم مش بالساهل والاسطى دسوقي قلبه جامد وبيشد ع الواد بس لزما كدة عشان يتعلم صنعة احنا مش دايمينله يا ست...ربنا ما يحكم عليكي بالشجا والغلب...
بس آني لما بأشوفه ساكت كدة جلبي يوجعني عليه والنبي (عيناها تدمعان وصوتها يتحشرج بالبكاء)...أجوم ألاغيه بعنيه يجوم يلاغيني يا جلب أمه بعنيه...وآهو...نعمة كله كله نعمة (تقبل كف يدها اليمنى وراحتها والدموع على خديها ثم ترفع عينيها للسماء)...الحمد لله.
مصر التي ليس فيها عماد الكبير

على عسر مزاجي وضيق نفسي في ذاك المساء, أرسلت لصديقتي الكندية رسالة قصيرة على الهاتف بلغة متكلفة على سبيل الممازحة : "هل تسمح السيدة الأولى بمقابلتي على كوبين من الشاي في هذا المساء؟"...بعد دقائق ردت علي مزاحي بمزاح:" بوصفي كاتمة سر السيدة الأولى أفيدك بأنها تقبل دعوتكم الكريمة يا سيدتي على كوبين من الشاي...أين؟"... أرسلتُ لها وأنا فطسانة من الضحك: "حيكون فين يعني؟ ذات المقهى الرخيص الذي ألقى فيه السيدة الأولى كل مرة! انت نسيتي ان احنا آخر الشهر ومفلسين؟"...
كنت ما زلت في جنيف أعد حقائبي عشان أنزل مصر أخيرا...ألملم أدوات زينتي و أشيائي الصغيرة التي دوما تراوغني وتضيع مني, وأوراقي الرسمية وجرائدي المبعثرة هنا وهناك...كان صدري ضيقا ألما وخوفا من العودة إلى مصر, وقت أن كانت أخبار عماد الكبير تملأ الفضاءات الإلكترونية وتفيض منها...ملامح عماد الكبير صارخا محفورة في ذهني بعند فلا تكاد تبارحها...أدور حول بحيرة جنيف البديعة أناجي الله وأنقل عينين شاردتين من هذا الوجه إلى ذاك لا أفكر إلا في عماد الكبير...وفي فكرة اللاعودة إلى مصر عماد الكبير!"لأ...لست أريد العودة إلى مصر عماد الكبير...هذا بلد كافر جاحد قاس...وطن حضنه ليس أحن من برودة الغربة"...هكذا كنت أهذي ببكاء هستيري أمام الفتاة الكندية الأرستقراطية برفقة كوبين من الشاي الأخضر وأمام عيني صاحب المقهى المكتنز الهادئ... ليلتها شاطرتني الكندية الناشطة المتمردة على أرستقراطيتها والتي تتلبس بديلا عنها حلة يسارية ثائرة-شاطرتني مخلصة ألم سائق ميكروباص بسيط في بلادي... ألم عماد الكبير الدي ما كان إلا بداية حوار طال بيني وبينها عن الإنسان في بلادي...

بعد أن هدأت موجة هذياني قالت لي بوجه برئ مذهول: "في كندا لا تعني لفظة رجل شرطة إلا أن تحسي بالأمان..عقلي لا يستوعب ما يجري في بلادك...أنا آسفة...لكن أنت أدرى بما يجب فعله"...وانتهى الكلام...وبقينا صامتتين...أنا فقط أهذي بكلمات باكية بين الحين والآخر ثم أصمت...بينما وجهها يأتي بحركات وتعبيرات لا معنى لها إلا "مش عارفة أقولك إيه...دة انت باين مستنياكي أيام طين!"...

آه يا عماد الكبير لو تدري كم من ليال طالت و اسودت علي بك ...آه يا عماد الكبير لو تدري كم من الساعات تسكعت في بلاد الخواجات بلا وجهة ولا أمل إلا أن أطرد من مخيلتي صورة وجهك المألوم الصارخ...لو تعلم يا عماد الكبير لو تعلم...لو تعلم كم أحلم لي ولك يا عماد الكبير بمصر... بلا عماد الكبير!
جميلة وهى تناضل!
أذكر أنى في يوم من تلك الأيام الكئيبة التي كانوا يقصفون فيها بغداد قبيل سقوطها, وكان المتظاهرون في كل مكان يملأون شوارع القاهرة وميادينها ,كنت أنا قابعة في حجرتي.."إياك والخروج من البيت في أيام المظاهرات"... أمي تقول...وأنا أمتثل!
كنت ليلتها خارج الزمان..خارج المكان..مللت أن أرى ما يحدث في بلادي بعيون الفضائيات وعدسات تصويرها الحديثة فاعتزلت حجرة الجلوس التي تحوى التلفاز واخترت أن أغيب في حجرتي وحيدة...

ليلتها هاتفني صديق قديم على هاتفي المحمول (لماذا لم اغلق هذا المحمول الملعون في وجه تسرب العالم الخارجي إلى عالمي؟!!)..سألني الفتى "أينك مما يحدث بالخارج؟؟أينك من الصخب هذا كله؟فيم انكماشك في حجرتك والتظاهرات تتحدى هراوات رجال الأمن الأشداء؟"...ولم يمهلن حتى أجيب ,أعتقني من أسر الشعور بالخجل الذي كان ولا شك سيربك إجاباتي بينما أبحث عن مبرر لاحتجابي في حجرتي في وقت يمارس الشباب رفضهم للحرب بشراسة..لم يمهلن لا عن رفق بي... بل لأنه اندفع يتغزل في "نورا"..!"جميلة وهى تناضل!!"هكذا قال...ونورا هي فتاة تعرفتها منذ شهور..عهدتها ثائرة تتحدى اللائق بكل ما هو غير لائق..تتحدى الحشمة بعريها المثير غير المبتذل..

تتحدى الرجال بترفعها عن مغازلتهم ,هي التي تستفز رجولتهم بجسدها البض وبشرتها الخمرية وشعرها المجنون..من أين أتت بهاتين العينين البريئتين هي العنود؟!!لا تناسبها هاتان العينان!!تجاهر بلا دينية أفكارها..تعرضها هكذا عارية من كل موروث ومنزل!حين أحبت فتاها بادرته هي..صارحته ..لم تنتظر إلى أن يلمح هو ما تحت برقعها ليأتيها فتراوغه!!


كنا نعرف قصتهما..وحين أحست أن حبه يشكل" قيدا" و"قفصا" وكل هذه الألفاظ الواردة من عالم النساء منذ ما يزيد على قرن(!)أنهت ما بينهما باتصال هاتفي عقب قرار جاء من طرفها وحدها..
"وكانت نورا وسط المتظاهرين..كان جسدها المثير منحشرا وسط آلاف الأجساد الأخرى..كانت تهتف كانت تصرخ..وحين اعتصموا صامتين أمام السفارة الأمريكية في القاهرة..اعتصمت وصمتت"...هكذا قال صديقي متغزلا, منشغلا عن شئون" الحرب العالمية الثالثة "بجماليات نورا وتفصيلات أنوثتها الشرسة!


أما أنا..فكنت بعدى في حجرتي أحاول ألا أعبأ "باصطياد أحلام لا تلائمني" كما تقول الشاعرة..كنت أنا الأخرى منشغلة عن شئون الحرب..عن كل بقع الدم القانية على ملاءات الأسرة البيضاء في المشافى..عن الوجوه الصارخة المحتشدة في التظاهرات أمام عدسات الصحفيين..منشغلة حتى عن الصلاة لأجل شهداء الحرب..كنت –بينما تمارس نورا غضبها الجميل- أمارس شرودي وحيرتي ودهشتي أمام اختيارات السماء...كنت أخوض حروبي اليومية ضد أشباح اصطنعتها لنفسي...وكنت أصلي لأجل أن يهدأ خاطري.


حين يهب المتظاهرون من جديد ربما أكون معهم..وربما أظل في حجرتي!...فالأعتاب التي تمنحنا وقتا مذبوحا لنتباحث بشأن أسئلة لم يأت وحي بجوابها بعد, والتي تهبنا أمانا هشا, لا تزال تناسبني!

ليست هناك تعليقات: